بوح الخواطر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

البطل في الزنزانة

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

البطل في الزنزانة Empty البطل في الزنزانة

مُساهمة من طرف Eihab 9/11/2010, 2:46 am

البطل في الزنزانة




قرلك لك اخيرا مجموعة لا بأس بها من الاقاصيص المنشورة هنا وهناك , وسرني بالفعل انك قد تخلصت الى حد بعيد نم ذلك الافتعال اللزج الذي يثقل طبيعة القصة , ويعرقل انسياب حوادثها . ان اصعب ما في كتابة القصة , هو التخلص من ذلك الافتعال , لكنني , واصدقك القول , لا افهم تماما ماهية هذا الذي يدعونه "افتعال" , فان كان يقصد منه ضعف الاسلوب وتقصيره عن اظهار الحادثة بشكلها الطبيعي , فانا موافق , اما اذا قصد منه ان الحادثة في القصة هي حادثة تعوزها الامكانية والعفوية , وانها حادثة بسيطة الى حد ليس فيه اية قيمة , فأنا لا اوافق , اذ انني اعرف قصة حدثت حقيقة مع احد من اصدقائي , وكلما فكرت ان اكتبها , لمحت فيها , مقدما , خطوطا ثخينة من هذا "الافتعال " تحدد بعض جوانب حوادثها … لماذا؟ انني في الحقيقة لا ادري , او , ولاعترف بذلك , ان حوادث القصة ذاتها ليس فيها اشياء كثيرة تحفظ عليها بنيانها القصصي . واخاف ان ازيد على احداثها كي اخلص نم الضعف والافتعال , فاقع في الكذب .
فانا , على هذا , احب ان اكتبها لك هي , احتراما للبطل وللحادثة , كما حدثت قبل عدة اشهر دون ان ازيد فيها او ان انقص .. وعليك انت ان تجرب فيها القواعد التي قلتها عن كتابة القصة , ولكي تكتب عن هذه الحادثة نفسها قصة ناجحة يقول عنها النقاد انها " مكتملة البناء الفني " , فكيف ستتصرف يا ترى ؟ وهل تجيز لنفسك ان تغير الحوادث التي وقعت , او تضيف علها حوادث جديدة كي تنسجم مع ما يسمونه "البناء الفني للقصة " ؟ واذا اجزت لنفسك ذلك , فهل تعتقد انك تكون في مستوى القضية التي تعذب البطل من اجلها ؟
***
ان صديقي – بطل القصة – ولنسمه رياضا , يعيش قضية تعكس نفسها على كافة جوانب حياته , انه يعيش قضية الامة العربية , ويبذل جهدا هائلا لكي يرتفع بنفسه الى المستوى الايجابي المنتج اهذه القضية .. ان رياض قد حاز اعجاب الجميع وتقديرهم , رغم ان قسما من هذا "الجميع " عندما تعرف الى رياض قال عنه انه انسان يحب التظاهر , وانه في باطنه يريد ان ينطلق الى اقرب ملهى .. كي يلعب مع العصافير – حسب تعبيرهم – ولكن رياضا ما لبث ان فرض نفسه يتشامخ ارتباطه مع القضية الكبيرة ..
لم يكن رياض –اذن – مزيفا بهذا الارتباط , ربما كان ارتباطه هذا اوضح ما في نفسه من اصالة .. كان يقف وقته كله على تغذية نفسه بفهم واسع , وانصع , لهذه القضية .. انني لا ابالغ , بل اعطيك انسانا اعرفه كما يعرف الانسان الصق الاشياء به ..
لقد سافر رياض الى الاردن , بعد انتكاسه نيسان الاخيرة , فان هنالك اشياء كثيرة يستطيع ان يؤديها باتقان , واستطاع ان يجد غرفة متواضعة منعزلة في دار تسكنها امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها , مع زوجها .. هناك سكن رياض , كان يمضي اوقاتا طويلة في غرفته , يتم اعماله الخاصة , غير مهمل البتة القيام بالواجبات الصغيرة التي تحتمها المجلات مع اصحاب الدار .. لقد كان يستقبلها بغرفته , ويسهر معهما , حتى اذا ما قاما الى غرفتهما دأب هو على عمله حتى الصباح ..
وكان في عمله ذاك , اوضح مثال عن الانسان الذي يتغذى بالنضال الصامت . كان قاسيا على نفسه , غير متهاون ابدا في مطالبتها بالواجبات .. كان رفاقه يحترمونه , لقد كان قويا , وقد فرض هذا الشعور على جميع من تعاون معه , فرضه الى حد جعل بعضهم يتسائل , هل يمكن ان يكون لهذا الانسان - رياض- جوانب اخرى غير قوته , في ذاته ؟
واتى الجواب في لحظة عابرة .. راوه مرة يبكي , كان ذلك ليلة نزل فيها بسيارة هزيلة مع بعض اصحابه , حاملا رزما من المناشير , وفي الطريق , لاحظ السائق ان ثمة سيارة تتبعهم , فراوده خوف مشحون بالرغبة في التحدي , ولكنه اضطر الى ان يبدل اتجاه الطريق . . لم يلحظ هذه الحركة الا رياض . . بينما استمر واحد من زملائه يلقي شعرا , لشاعر من اقليم مصر بصوت خفيض مبحوح :
. .
لاجئة , تبكي ايام الحب . .
لما كانت يافا . . يافا .
واخيرا . . ما بعدك يا يافا ؟
كم سنة ونصير حكاية ؟
ويقول العلماء ..
العرب انقرضوا !
وفجأة نظر الجميع الى رياض , كانت اللحظة تحتويهم بعنف وتجهم , ان ثمة لحظات تعطي الانسان دفقات من المشاعر القاسية , البعيدة , العجيبة . . تلح على راسه الحاحا ممضا . . لقد كانت تلك اللحظة من هذا النوع , ان رياضا قد خضع حتما لتلك الدفقات العجيبة . . ان اشياء كثيرا , تلح عليه , لا شك , بحدة وصلابة . فبكى !
شيء مؤلم ان تجد انسانا قويا يبكي . . اليس كذلك ؟

***
قلنا ان رياضا عاش في الاردن منذ وصلها , وهو يعمل ليلا نهارا , لقد توطدت صداقته مع اصحاب الدار فصاروا يحبونه حبا جما , وليس هذا فحسب بل كانوا يقدمون له عشاءه في بعض الامسيات . .
لقد كانت (ام …) صاحبة الدار تاتي الى غرفته كل ليلة تقريبا مع زوجها , فتجلس على طرف السرير , وتتحدث عن الاخبار بينما كان رياض يجلس على كرسيه , خلف طاولة صغيرة .
وفي مرة , رفعت (ام…) جريدة موضوعة على السرير امام عينيها , ولاخظ رياض ان الجريدة مقلوبة , وقبل ان يتكلم , رمت (ام…) الجريدة جانبا وهي تقول :
-
الله يلعن ايام زمان . . على كل حال , انا تزوجت , وصار عندي اولاد . . ولم يبق من العمر قدر ما ما مضى . .
-
انك يا ( ام . . . ) من الناس الذين قيل عنهم انهم متعلمون رغم انهم لا يعرفون القراءة . .
وضحكت (ام . . . ) ونهضت وهي تتمنى له ليلة طيبة.

***
حتى اذا كان ذات مساء . . وقد عاد رياض الى داره مرهقا , استقبلته الشرطة على الباب , وشدوا الحديد على رسغيه وقادوه –دونما كلمة – الى المخفر . . وذهب رياض الى هناك هادئا , وهناك قالوا له انه يتامر على العرش , ولنه نفى ذلك بهدوء . . انه كان على يقين كبير ان احدا لن يجد ضده اثباتا واحدا . . لقد كان حريصا في اخفاء اوراقه , قديرا في التخلص منها في الوقت الملائم , ان الشتائم لم تجد , لا هي ولا السياط لقد بقي رياض سامدا في كل لحظة .
لكن الامور تجري بقسة اشد , لقد سجن رياض في زنزانة منفردة , وسلكوا في سحب اعترافاته طريقا وحشيا مريعا . . كان يعرض لتيار كهربائي في كل يوم. . كان يجلد , ويعذب , ويرمى في زنزانته وحيدا مع جراحه ولكنه صمد ببطولة صامتة , فلقد ذوت ابتسامته تحت صفع السياط وصفع الشتائم , وبات لا يحس الا التمزق .
ثم حمل الى غرفة الضابط المسؤول واعيدت عليه مجموعة الاسئلة التقليدية , وانكر رياض كما اعتاد ان يفعل , قدم له الضابط – دون ان يغير تعابير وجهه المبتسم بجذل وحبور – مصنفا صغيرا وطلب منه ان يفتحه .
لقد راى رياض في المنصنف مجموعة من الاوراق , ما لبث ان عرف فيها اوراقا كان قد كتبها في غرفته تلك , منشورات , وبعضها الاخر رسائل الى هاربين , واوراق اخرى , لقد احس رياض لا شك , قسوة المفاجأةوعليك انت ان تبرز هذه المفاجأة عندما تكتب القصة – ولكنه تشبث بالنقطة الاخيرة التي بقيت لصموده , لقد قال ان هذا الخط ليس خطه وانه , على هذا , لا يتعرف على الاوراق . .
نعم يا رياض , انه ليس خطك ولكن ايعدم الخائن وسيلة ليلوث نفسه اكثر بالوحل والحماء ؟ ان عندهم مجموعة من الاثباتات الصغيرة لابد وانهم سيبرزونها في الوقت الملائم ..
وبدأت الخطوط تنجلي شيئا فشيئا , ان صاحبة الدار هي صاحبة الوشاية , وهي التي كانت تنسخ اوراقه اثناء خروجه في الصباح , وهي التي قدمت تقريرا عنه , ان المرأة الشريرة اذن تعرف القراءة و الكتابة لقد حطمت المفاجأة كل قلعة للامل في صدر رياض , ولكنه احتفظ لنفسه بمواساة اخيرة . ان المرأة الكاذبة لم تبدأعملها منذ زمن بعيد وانها نسخت جهود ايام قليلة فقط .
ويتذكر رياض المرأة ويشعر بالمرارة , لقد خدعته ولكن ما مصلحتها من هذا كله ؟ - وياتي الجواب من زميل في السجن , انها زوجة منتسب لحزب معين – ساوافيك باسمه ان قررت ان تكتب القصة فعلاوهو حزب معروف بتعاونه مع الفئة الحاكمة هناك , وهي- اي المرأة - ام لابن يعمل فيه .
ويقول له الضابط – ما ايك ؟
ويقول رياض – انكم اذناب صغيرة في بالوعة القاذورات المنتنة , فليسقط العرش , ولتسقط الوزارة , ولتسقط انت .
ويصفع بالصوت . . ويلقى في السجن .
هذه هي القصة وهي بسيطة في حوادثها , عادية الى حد بعيد , انني لا اريد ان اكتبها كقصة خوف ان الجأ الى الحواشي , فاقع في الكذب , او في شيء لا اعرفه , ولا احبه , و الحادثة كما كتبتها , هي الحادثة التي وقعت فعلا , وقد تبدوا في بعض احداثها غريبة او مدسوسة وهذا سيزعج بعضهم , او انما ستبدوا عادية جدا , وهذا سيزعجهم اكثر .
خذ مثلا عندما يكتشف ان صاحبة الدار هي امرأة تعمل لحساب الفئة الحاكمة , وانها منتسبة الى ذلك الحزب , سيقول بعضهم ( انك دسست هذا المقطع لغاية في نفسك ) ولكن الحقيقة التي وقعت ترفض هذا التكذيب واذا لم اذكر هذه الحقيقة , فماذا اقول ؟ اليس في ذكرها فائدة لطائفة من الناس ؟ اذن ؟
اتريد مثالا اخر ؟ يقولون لك ان كذب المرأة , صاحبة الدار , وان كلماته الاخيرة عندما صفعه الاثبات وحوادث تعذيبه , هي امور غير واقعية – وفيها شعار ما – ولكن لماذا ننفي الحقيقة ونفتش في اذهاننا عن حادثة يقول عنها النقاد انها ممكنة الوقوع , اليس في الذي وقع ممكن اوضح ؟
اريد من كل الذي كتبت ان اسأل – اليس من حق هذا الانسان الطيب النبيل , ان يحتفظ لنفسه بحوادثه الخاصة تلك التي بذل فيها جانبا من انسانيته ؟ اليس من حقه ان يقدم للناس كما هو , وان يتصرف في القصة كما تصرف حقيقة ؟ اذن لماذا نحاول ان نحكي عنه قصة لم تحدث معه ؟ النخدم فن القصة ؟ قل لي لماذا؟ .
ولكنني لا بد لي , ان اوافقك ان مشاعر القارىء يجب ان تحترم ايضا . . فأنتككاتب يهمك جدا , وربما اولا , رضا هذا القارىء – تطالب بنهاية ما لهذا المقطع من حياة البطل , نهاية تخدم فن القصة وترضي القارىء، الذي يجلس حيث لا أدري والذي يريد أن يدغدغ مشاعره قليلا ، إذن، فلنجد نهاية ما ، إن رياض ، ملقى في زنزانته الان ، على حشبة قش وبراغيث ، محروم من التدخين ، محروم من القراءة ، محروم من التفكير ، الخيوط الحمراء التي حفرتها في جسده الاسمر سياط المجانين محشوة بالملح ، إن أصابعه ترجف من التعب ، لا من الخوف .. تعال نفتش عن مخرج ، تعال نخط له نهاية سعيدة على صفحة ورقة ، كي يتمتع بها انسان حر طليق .. تعال نعمل كل هذا لنتم القصة . . كي نخدم فن الاقصوصة القصيرة .

لقد قرأت القصة على صاحبين من أصحابي ، وطالبتهما بنهاية تسر القارىء ، أو على الأقل ترضيه . . فاقترح أحدهما : أن يهرب رياض من السجن بكيفية ما ، ولكنه طالب بأن تكون عنيفة ، وأن يذهب لتوه الى الدار فيقابل ( ام. . . ) وليقول لها أن وشايتها قد عذبت انسان ، وآلمته ، وأرهقته . . ومن ثم، يتركها لتأنيب ضميرها ، الذي لا بد له – كما أكد صاحبي – ان يستتيقظ ، دفعة واحدة .

واقترح الآخر – وهو من قراء دوماس – " بل يجب أن تجري الحوادث الآن على نحو مغاير أن المرأة هذه ، تشعر فجأ أنها تحب رياض حبا عنيفاً الم تقل أنها في الثلاثين ؟ حسن جداً، إن سبب هذا الحب هو أن رجولة رياض، ابرزتفاهة الزوج، هذه المرأة، تذهب إلى السجن لتقابل رياضاً، ولتقدم له الطعام والدخان، ولكنه يرفض، فتصر ويصر هو على رفضه، وتشعر فجأة بجريمتها، فتقرر قراراً عنيفاً . . . "

انني لا اوافق على هذه الثرثرة، وادرك كم كنت مشمئز الآن، لكن ارجو ان تسمع رايي في الموضوع، انني متأكد من نهاية هذه القصة، تأكيدي من الشمس ستغرب اليوم على طرف الخليج، مثل كل يوم، ان الوضع الهزيل القائم سيتهاوى لا شك، وسيخرج رياض من السجن مع زملائه الاحرار، وسيغمس مرة اخرى في مشاغل القضية التي آمن بها، وتعذب من أجلها .
أما عن ( ام. . . )، فستضيع بين أكوام التجارب الصغيرة التي مرت به . .



المدفع


لقد عرفه الجميع ...وكادوا ان يعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها: وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلان ببعضهما باخدود يعين طرف انفه العلوي, وانفه المفلطح تدور باسفله دائرتان واسعتان فوق شارب رمادي كثيف , يتدلى , فيخفي شفته العليا ... اما ذقنه فلقد كانت عريضة حادة , كانها قطعت لتوها من صدره, ومن ثم , بردت رقبته الثخينة بردا.
ان سعيد الحمضوني نادرا ما يتكلم عن ماضيه, انه دائما يتحدث عما سياتي , وما ينفك يعتقد ان غدا سيكون احسن من اليوم , ولكن اهل(السلمة) يتناقلون فيما بينهم , بشيء كثير من المبالغة , اخبار سعيد الحمضوني ايام كان يقود حركات ثورية في 1936 , يقولون-هناك في القرية- ان سعيدا اطلق سراحه من المعتقل لانه لم يدن .. ويقال انه لم يقبض عليه بعد , ومهما يكن , فهو الان يملأ القرية , ويربط الصبيان كل احاسيسهم وتخيلاتهم التي يرسمونها للرجل الممتاز .. وليد المغامرة القاسية ...
لقد عاد سعيد مؤخرا من يافا, واحضر معه رشاشا من طراز(الماشينغن) كان قد قضي قرابة اسبوع كامل يجمع ثمنه من التبرعات, ومع ان سكان السلمة كانوا على يقين كبير ان ثمن مدفع من هذا الطراز لا يمكن انيجمع من التبرعات , فلقد اثروا ان يسكتوا , لان وصول المدفع الرائع اهم بكثير جدا من طريقة وصوله , فالقرية في اشد الحاجة الى اي نوع من انواع السلاح, فكيف اذا حصلت على سلاح من نوع جيد؟..
لقد عرف سعيد الحمضوني ماذا يشتري! ان هذا المدفع , مدفع (الماشينغن ) كفيل برد اي هجوم يهودي مسعور, انه نوع راق من السلاح , والقرية في اشد الحاجة اليه.. فلماذا يفكرون في طريقة و صول المدفع ؟ . ولكن سكوت رجال السلمة , لايعني سكوت نسائها , لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهن تلح الحاحا قاسيا , ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الامر , استطعن ان يقنعن انفسهن , ان سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة 1936 مدفعا من هذا الطراز ابلى من خلفه بلاءا حسنا , ثم خبأه في الجبال الى ان ان اوان استعماله من جديد .. ولكن التساؤل بقي متضمنا في اعمق اعماق السلمة , لم يكن من اليسير ان يجمع الانسان ثمن مدفع من طراز الماشينغن ..
اذن فمن اين اتى سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم .من اين؟
المهم .. ان هذا المدفع الاسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس اهل السلمة, و هو يعني بالنسبة لهم اشياء كثرة, اشياء كثيرة يعرفونها , واشياء اكثر لا يعرفونها .. ولكنهم يشعرون بها , هكذا, في ابهام مطمئن .. ان كل كهل و كل شاب في السلمة , صار يربط حياته ربطا وثيقا بوجود هذا المدفع , وصار من صوته المتتابع الثقيل , اثناء تجربته في كل امسيتين , نوعا من الشعور بالحماية..
وكما يرتبط الشيء بالاخر , اذا تلازما , ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع , لم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة , ان سعيد الحمضوني اصبح الان ضرورة مكملة .. بل اساسية , للمدفع , وعندما يتحدث الناس عن سعيد, كانوا يشعرون انه اداة من ادوات المدفع المعقدة .. شيء كحبل الرصاص , كقائمتي المدفع .. كالماسورة: كل متماسك لا تنفصل اطرافه عن بعضها . بل واكثر من ذلك , لقد صار يربط سعيد الحمضوني حياته نفسها ربطا شديدا بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعورا هادئا بالطمأنينة , شعورا يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع , دائم الاعتناء به , تكاد لا تراه الا وهو يدرب شباب القرية على استعماله , ويدلهم في نهاية التدريب على المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع , هذا المكان الذي سيصير –فيما بعد – معتادا . ومع مرور الايام بدأ سعيد الحمضوني يتغير.. لقد تبدل لونه عن ذي قبل . وبدا كأنه يضمر شيئا فشيئا , و احس شباب السلمة ان سعيد الحمضوني صار يبدو اكبر من ذي قبل , وانه صار يققد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته .. انه صامت الان, صامت الى حد يخيل للانسان معه انه نسى كيف كان يتكلم الناس , وصار شيئا مألوفا ان يجده الناس منطلقا الى جنوب السلمة , حيث ركز المدفع , ليجلس وحيدا بقربة الى العشية .
هذا الرجل الجبار .. الهاديء.. الثائر.. هل كان يعتقد انسان انه سيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد؟ لقد فتحواعليه باب داره والصباح يوشك ان ينبلج , وتضاخمت امامه كتلة سوداء, وضربت الارض وبرز منها صوت احد رجاله , يدوركالدوامة , ليبتلع كل احساس بالوجود :
-
المدفع .. لقد اصابه العطب .. ان ماسورته تتحرك بغير ما توجيه.. اليهود يتقدمون.
وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارة تقتلع من جوفه شيئا يعز عليه ان يضيع منه , شيئا كقلبه لا يستطيع ان يتابع وجوده الا معه .. كان يشعر بكل هذا و هو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في اخر الليل .. ووصل الى حيث كان الرشاش يتكيء كالطفل الميت على الاغصان اليابسة , كل شيء ساكن ,الا طلقات البنادق الهزيلة , تحاول عبثا الوقوف في وجه الهجوم .. اما المدفع .. اما جهنم ..
وهز سعيد الحمضونيرأسه و كأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه , ثم فكر : ان لا بد من اجراء .. لا بد .. شيء قوي كالكلابة يجب ان يمسك الفوهة الهاربة الى بطن الدفع.. شيء قوي..
-
اسمع .. سأشد الماسورة الى بطن المدفع بكفي. وحاول ان تطلق .. لا يوجد اية دقيقة لتضيع في كلام .. دعنانجرب ,
-
لكن ..
-
اطلق!
-
سيرانا اليهود وانت فوق الحفرة .
-
اطلق!
-
ستحرق كفيك بلهب الرصاص..
-
اطلق.. اطلق!.
وبدأالمدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل, ومع صوته المحبوب, شعر سعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلا بالثورة والدم والقتال في الجبال, شعر بانها النهاية .. نهاية تاق اليها طويلا وها هي ذي تتقدم اليه بتؤدة , كم هو بشع الموت .. وكم هو جميل ان يختار الانسان القدر الذي يريد.. وسمع صوته من خلال دقات الرصاص:
-
اسمع اريد ان اوصيك و صية هامة ..
-
وعاد يصيخ الى المدفع واستخلص من صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول ان يمضغ المه:
-
قرب قرية ( ابو كبير ) ابعد منها قليلا , يوجد مستشفى للسل ..عرفته؟حسنا! لي هناك مبلغ جيد من المال , قالوا لي .. ان ارجع لأقبضه بعد ان يفحصوا الدم .. انا متأكد انه .. دم جيد.. في كل مرة يقولون انهم يريدون ان يفحصوا الدم كأن دم الانسان يتغير في خلال اسبوع و نصف .. اسمع .. ان ثمن المدفع لم يسدد كله .. ستجد اسم التاجر في داري .. هو من يافا . لقد دفعت قسما كبيرا من ثمنه من تبرعاتكم . لقد اوشك ثمنه ان يتم .. هل تعرف انهم يشترون الدم بمبلغ كبير؟ لو عشت شهرين فقط؟ شهرين اخرين لاستطعت ان اسدد كل ثمنه .. انني اعطيهم دما جيدا .. ثمنه جيد .. خذ حسن و حسين واذهب الى ذلك المستشفى .. الا تريد ان يبقى المدفع عندكم .. ان حسن وحسين .. ولدي.. يعرفان كيف يذهبان الى هناك.. لقد كانا يذهبان معي في كل مرة .. ان دماءنا جميعا جيدة.. جيدة جدا.. القضية قضية الحليب الذي رضعناه . قضية.. اريد ان اقول لك شيئا اخر.. اذا تراجع اليهود هذه المرة .. تكون اخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية .. سيخافون .. فعليكم ان تنقلوا المدفع الى الشمال .. لان الهجوم التالي سيكون من هناك ..
واشتد شعوره بالنار تلسع كفيه بقسوة .. واحس احساسا ملحا انه لو كان في صحته العادية لاستطاع ان يقاوم احسن من الان , وراوده شعور قاتم بالندم على انه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل, ولكنه احس احساسا دافقا ان المدفع طرف اخر من الموضوع , طرف هام.. ان وجوده يحافظ على اهميته قبل ان يموت هو , وبعد ان يموت..
فأغمض عينيه , وحاول جاهدا ان يحرر نفسه من سجن ذاته كي ينسى المه .. لكنه لم يستطع .. فأسقط ركبته على الارض في ثقل..

وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف.. احس سعيد الحمضوني باشياء كثيرة .. كانها ملايين الابر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه ,ثم شعر باطرافه جميعها تنكمش كانها ورقة جافة في نهاية الصيف.. وبجهد شرس حاول ان يرفع راسه ليشم الحياة , الا انه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر .. في السلمة , والذي عاش الى جواره فترات طويلة من صباه , وجد نفسه في ذلك التنور جنبا الى جنب مع الارغفة الساخنة تحمر تحت السنة اللهب , ورأى بعينيه فقاقيع العجين الملتهبة , تطير عن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه , وشعر بيد قاسية تشد رأسه الى ادنى .. الى ادنى .. الى ادنى .. فيسمع لفقرات رقبته صوتا منتظما ثقيلا وهي تتكسر تحت ثقل راسه .. واحس انه فعلا لا يريد ان يموت , واعطته الفكرة دفقة اخرى من الحياة .. فاكتشف ان صوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش , وشعر بمواساة من نوع غريب , مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع اخيه , فابتسم باطمئنان, وخرج من( التنور ) لكنه شعر انه لم يلمس الارض بقدميه..
وشيعته القرية كلها الى مقره الاخير.. او الاول .. سيان..

دمشق 12/8/57

Eihab
عضو فضي
عضو فضي

عدد المساهمات : 452
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 44
الموقع : e_jarbou@yahoo.com

بطاقة الشخصية
اليوم:

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

البطل في الزنزانة Empty رد: البطل في الزنزانة

مُساهمة من طرف الامبراطوره 6/27/2011, 1:47 am

يعطبك العافيه على الطرح المميز والذوق في الاختيار انتظر كل جميل مميز قادم

الامبراطوره
عضو ماسي
عضو ماسي

عدد المساهمات : 1048
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
الموقع : [URL=http://ksa1518.arabform.com][IMG]http://www.arabform.com/img/img_468_60.gif[/IMG][/URL]

بطاقة الشخصية
اليوم:

https://baw7.rigala.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

البطل في الزنزانة Empty رد: البطل في الزنزانة

مُساهمة من طرف Eihab 8/12/2011, 5:48 am

كل الذوق منك امبراطورة

Eihab
عضو فضي
عضو فضي

عدد المساهمات : 452
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 44
الموقع : e_jarbou@yahoo.com

بطاقة الشخصية
اليوم:

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى